محمد المغبط / المستشار القانوني لدى الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية - لا فساد
كثُر الحديث مؤخراً حول الحق في الوصول إلى المعلومات في لبنان خاصَّةً بعد صدور المرسوم التطبيقي للقانون في أيلول من العام ٢٠٢٠ وتعديل القانون في تمُّوز من العام ٢٠٢١، بالإضافة إلى اهتمام الجهات الوطنيَّة والدوليَّة بالدفع باتجاه تطبيقه من قبل الدولة اللبنانيَّة وإداراتها لما لذلك من أهميَّة على صعيد تعزيز الشفافيَّة في الإدارة العامَّة. إلَّا أننا لن نخوض في التفاصيل القانونيَّة لكيفيَّة تنظيم هذا الحق كوننا قد قمنا بذلك في أكثر من معرض إن كان من خلال العمل مع لجنة الإدارة والعدل في مجلس النوَّاب لتعديل القانون، أو مع وزارة العدل لإقرار المرسوم التطبيقي الخاص بهذا القانون بما يتماشى مع طبيعة هذا الحق
بل سوف نعمد إلى تبيان أهميَّة الحق في الوصول إلى المعلومات من خلال الدور الذي يلعبه لنخلص إلى التأكيد على الطبيعة الدستوريَّة لهذا الحق أولاً، وأنَّهُ حق أساسي من حقوق الإنسان ثانياً؛ وذلك بمناسبة اليوم العالمي للحق في الوصول إلى المعلومات الواقع في ٢٨ أيلول من كل عام الذي تعتمده منظمة الأونيسكو. بدايةً لابدَّ لنا من عرض أهميَّة الحق في الوصول إلى المعلومات في أي مجتمع، ولكن قبل ذلك علينا أن نقف على كيفيَّة تنظيم هذا المجتمع. تنشأ الدول من خلال عقد اجتماعي بين شرائح المجتمع كافة وينتج عن هذا العقد سلطة تتمثل بالدولة التي تكون مهمتها تحقيق أهداف وغايات المجتمع بالوصول إلى الرخاء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعادةً ما يُحدِّد هذا العقد "الآليَّة العامَّة" (إذا صح التعبير) لكيفيَّة عمل الدولة تحقيقاً لأهداف وغايات المجتمع، كأن يحدِّد طبيعة النظام السياسي: جمهوري، فيدرالي، أو ملكي دستوري، ونوعه: رئاسي، شبه رئاسي، أو برلماني، وذلك في إطار الأنظمة الديموقراطيَّة
إذا ما أردنا أن نسقط هذا التوصيف على النظام اللبناني نستطيع القول أنَّه بحسب الدستور اللبناني، فإنَّ نظامنا المنبثق عن عقدنا الاجتماعي هو نظام ديمقراطي جمهوري برلماني. وفي هذا النوع من الأنظمة تتوزع "الآليَّة العامَّة" لعمل الدولة على الشكل التالي: سلطة تشريعيَّة تكون مهمتها سنّْ التشريعات والرقابة على السلطة التنفيذيَّة، التي بدورها تكون مهمتها السهر على تنفيذ التشريعات التي وضعتها السلطة التشريعيَّة ورسم السياسة العامَّة للبلاد بما يتواءم مع تطلعات المجتمع، وسلطة قضائية تتمثل مهمَّتها بضمان احترام النظام العام للبلاد وصحة تنفيذ التشريعات بالإضافة إلى ضمان العدل بين شرائح المجتمع جماعات وأفراد؛ تتكامل هذه السلطات في أدوارها لتقوم مجتمعةً برقابة غير مباشرة على تنفيذ العقد الاجتماعي اللبناني. وفي إطار طرحنا لأهميَّة الدور الذي يلعبه الحق في الوصول إلى المعلومات في المجتمع نسأل: هل الرقابة غير المباشرة على تنفيذ العقد الاجتماعي اللبناني من قبل السلطات الثلاث كافية لضمان تنفيذ العقد الاجتماعي وعدم مخالفة أهداف وغايات المجتمع؟ للإجابة على هذا السؤال لابُدَّ لنا من فهم كيفيَّة تطور المجتمعات وتعقيداتها التي تنعكس بشكل مباشر وغير مباشر على الواقع التطبيقي ل "الآليَّة العامَّة"، بالإضافة إلى تأثير ذلك على كل من القطاعين العام والخاص بكل تشعباتهم. والحال كذلك، ونظراً لكون عمل كل من السلطتين التشريعيَّة والتنفيذيَّة عادةً ما تتحكم به التجاذبات السياسيَّة والإجراءات البيروقراطيَّة المتعدِّدة التي تؤدي إلى بطء عمليَّة المراقبة والمساءلة ما يقلِّل من نسبة تحقيق نتائج إيجابيَّة من خلالها، وهو ما يُظهر ويُبرِّر الحاجة إلى وجود عمل جماعي تشاركي وتعاوني غير مقيِّد بالإجراءات البيروقراطيَّة والتجاذبات السياسيَّة
من هنا، تظهر الحاجة إلى وجود طرف ثالث تكون وظيفته التكامل مع عمل السلطات الرسميَّة للدولة من أجل مراقبة تنفيذ العقد الاجتماعي في المجتمع ككل وتعزيز فعاليَّة عمل السلطات وزيادة الضمانات والضوابط على عدم جنوح السلطة، أي المساهمة إيجاباً في تعاون وتوازن السلطات في ما بينها ولو كان ذلك بشكل غير رسمي، طالما أنَّ هذا الطرف الثالث يشترك مع السلطات الرسميَّة في تحقيق أهداف وغايات المجتمع المتمثلة في تحقيق الصالح العام. ويتمثَّل هذا الطرف الثالث بهيئات المجتمع المدني التي لا تقتصر فقط على الجمعيَّات غير الحكوميَّة، بل تشمل أيضاً الاتحادات والنقابات والهيئات الاقتصاديَّة وصولاً إلى المؤسسات الإعلاميَّة والخبراء وحتَّى الأفراد. إلَّا أنَّ هيئات المجتمع المدني هذه، التي عادةً ما تكون لا تبغى الربح وتهدف إلى تحقيق الصالح العام، لا يُمكنها القيام بهذا الدور من دون حصولها ووصولها إلى المعلومات التي بحوزة السلطات الثلاث بشكل عام والإدارات العامَّة كافة بشكل خاص. هنا يأتي دور الحق في الوصول إلى المعلومات كحق دستوري وأساسي من حقوق الإنسان الذي لا يُمكن لسلطات الدولة انتقاصه بشكل يتعارض مع الهدف والغاية منه أو تقويضه. ولهذا ضمَّن المشرِّع الدستوري اللبناني نصوصاً دستوريَّة تكفل الحق في الوصول إلى المعلومات بحيث لا يُمكن للمشرِّع تنظيم هذا الحق بشكل يتناقض والضمانة الدستوريّ.
أمَّا لجهة اعتبار الحق في الوصول إلى المعلومات حقاً أساسيّاً من حقوق الإنسان فيكفي النظر إلى المادَّة ١٩ من الإعلان العالمي لحقوق الذي أكَّد المجلس الدستوري اللبناني، في معرض ردّه للطعن المقدَّم بقانون الشراء العام مؤخراً، على كون الإعلان من المبادئ الدستوريَّة العامَّة وأنَّهُ جزءاً من الدستور اللبناني؛ فالمادة ١٩ المذكورة أعلاه تقرَّ الحق في حريَّة الرأي والتعبير الذي يتضمَّن الحق في استقاء الأخبار والمعلومات لجميع الأفراد، وبحسب الاجتهاد والتفسير الدولي فإنَّ الحق في الوصول إلى المعلومات هو حق متفرِّع عن الحق في حريَّة الرأي والتعبير كون تكوين الرأي والتعبير عنه في الحقل العام يتطلَّب الوقوف على المعلومات الصحيحة والدقيقة التي بحوزة الدولة ليتسنَّى للفرد تبنِّي رأياً مستنيراً ومستنداً على حقائق ليُعبِّر عنه بشكل فعَّال وتتَّسم مشاركته في الحياة العامَّة بالفعاليَّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ المادَّة ١٩ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة تقرّ نفس المبدأ وتجعل من تقييد الحق في الوصول إلى المعلومات ضمن ضوابط لا تتعارض وأهداف وموضوع العهد ذاته المتمثلة بتوفير أكبر قدر من الضمانات لحقوق الإنسان. علماً أنَّ لبنان كان قد صادق على هذا العهد، وأنَّ المادَّة ٢ من قانون أصول المحاكمات المدنيَّة المعدلة في العام ١٩٨٣ تقرّ قاعدة تدرج القوانين التي تُلزم المحاكم تطبيق الاتفاقيّات الدوليَّة عند تعارضها مع أحكام القانون اللبناني. ختاماً، يتبيَّن لنا من خلال هذا العرض الموجز أنَّ أهميَّة الدور الذي يلعبه الحق في الوصول إلى المعلومات تجعل منه حقاً دستورياً وأساسياً من حقوق الإنسان، وذلك على عكس ما يعتقد البعض أنَّ الوصول إلى المعلومات هو أمراً إجرائياً لارتباطه بشفافيَّة الإدارة فقط، نظراً لكون عدم توفر المعلومات لشرائح المجتمع، جماعات وأفراد، قد يؤدي إلى ضياع أهداف وغايات المجتمع وتذويبها في إطار التجاذبات السياسيَّة والإجراءات البيروقراطيَّة
0 Comments